فصل: تفسير الآيات رقم (5- 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء الثامن عشر

سورة المؤمنون

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلِّق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب، فكأنه قيل‏:‏ قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه‏.‏

ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمَللِ الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاماً بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خيْر الدنيا، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعداً بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير‏.‏

وأكد هذا الخبر بحرف ‏(‏قد‏)‏ الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد، فحرف ‏(‏قد‏)‏ في الجملة الفعلية يفيد مفاد ‏(‏إنّ واللام‏)‏ في الجملة الاسميَّة، أي يفيد توكيداً قويّاً‏.‏

ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏وافعلوا الخير لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم، بلْهَ أن يعرفوا اقتراب ذلك؛ فلما أخبروا بأن ما ترجَّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق‏.‏ فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله، ولعل منه‏:‏ قد قامت الصلاة، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «أرِحْنَا بها يا بلال» وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان‏.‏

وحُذِف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحاً كاملاً‏.‏

والفلاح‏:‏ الظفَر بالمطلوب من عمل العامل، وقد تقدم في أول البقرة‏.‏ ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

إجراء الصفات على ‏{‏المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلتِهِ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم‏.‏ وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلاّ بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سبباً للفلاح، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فَي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِم المسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِين وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْممِ الدّينِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42 46‏]‏ على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور‏.‏

والخشوع تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلاّ عَلَى الخَاشِعِينَ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ في سورة الأنبياء ‏(‏90‏)‏‏.‏ وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه، ولا شك أن الخشوع، أي الخشوع لله، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح‏.‏

وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها، إذ الخشوع محلّهُ القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته‏.‏ وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له‏.‏ وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها‏.‏

ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل موالياً للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين‏.‏

وتقديمُ في صلاتهم‏}‏ على ‏{‏خاشعون‏}‏ للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقاً شديداً بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لاَم الاختصاص‏.‏ فلو قيل‏:‏ الذين إذا صلوا خشعوا، فات هذا المعنى، وأيضاً لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلاّ بواسطة كلمة أخرى نحو‏:‏ كانوا خاشعين‏.‏ وإلاّ يفتْ ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوَامِهِ، أي كون الخشوع خُلقاً لهم بخلاف نحو‏:‏ الذين خشعوا، فحصل الإيجاز، ولم يفت الإعجاز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو‏:‏

إلى المَلِككِ القرْم وابننِ الهُمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم‏.‏

والقول في تركيب جملة ‏{‏هم عن اللغو معرضون‏}‏ كالقول في ‏{‏هم في صلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏، وكذلك تقديم ‏{‏عن اللغو‏}‏ على متعلقه‏.‏

وإعَادَةُ اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع‏.‏

واللغو‏:‏ الكلام الباطل‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ في البقرة ‏(‏225‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغواً‏}‏ في سورة مريم ‏(‏62‏)‏‏.‏

والإعراض‏:‏ الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العُرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو، وتقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏68‏)‏، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يَلْغُوا في كلامهم‏.‏

وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصْل الدعاء، وهو من الأقوال الصالحة، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية، فكان الإعراض عن اللغو بمعنَيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور، وفي الحديث «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم»‏.‏

والإعراض عن جنس اللغو من خُلق الجِدِّ ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلاّ الأعمال النافعة، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام‏:‏

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل *** سوى العَدل شيئاً فاستراح العواذل

والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله‏.‏

واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير، فالإعراض عن لغوهم رَبْءٌ عن التسفل معهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أصل الزكاة أنها اسم مصدر ‏(‏زكَّى‏)‏ المشدّد، إذا طهَّرَ النفس من المذمات‏.‏ ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازاً لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي‏.‏ فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب‏.‏ وأصله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب ‏{‏فاعلون‏}‏ المقتضي أن الزكاة مفعول‏.‏ وأما المصدر فلا يكون مفعولاً به لفعل من مادة ‏(‏ف‏.‏ ع‏.‏ ل‏)‏ لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبْهم ونصببِ مصدره على المفعوليَّة به‏.‏ فلو قال أحد‏:‏ فعلت مشياً، إذا أراد أن يقول‏:‏ مَشَيْتُ، كان خارجاً عن تركيب العربية ولو كان مفيداً، ولو قال أحد‏:‏ فعلت ممَّا تريده، لصح التركيب قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن فعلَ هذا بآلهتنا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 59‏]‏، أي هذا المشاهَد من الكَسْر والحطم، أي هذا الحاصل بالمصدر‏.‏ وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غَيْبَةِ فاعله‏.‏

والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 55‏]‏ فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة‏.‏

وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو ‏{‏فاعلون‏}‏ لأن مادة ‏(‏ف ع ل‏)‏ مشتهرة في إسداء المعروف، واشتق منها الفَعال بفتح الفاء، قال محمد بن بشير الخارجي‏:‏

إن تنفق المال أو تكلَفْ مساعيَه *** يَشْقُقْ عليك وتفعل دون ما فعلا

وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت‏:‏

المطعمون الطعام في السَّنَة الأز *** مة والفاعلون للزكوات

أنشده في «الكشاف»‏.‏ وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلاّ من مصطلحات القرآن، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء‏.‏ قال ابن قتيبة في كتاب «الشعر والشعراء» «وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب»‏.‏

واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيَّة وبالتأخير عن معموله‏.‏

وقال أبو مسلم والراغب‏:‏ اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس‏.‏ ومعنى ‏{‏فاعلون‏}‏ فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول ‏{‏فاعلون‏}‏ بدلالة علته عليه‏.‏

وفي «الكشاف» أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي، أي إعطاء الزكاة وهو الذي يحسن أن يتعلق ب ‏{‏فاعلون‏}‏ لأنه ما من مصدر إلاّ ويعبر عن معناه بمادة فَعَلَ فيقال للضارب‏:‏ فَاعل الضرب، وللقاتل‏:‏ فاعل القتل‏.‏ وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلَّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف، وكلا الاعتبارين غير ملتزَم‏.‏

وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعتَ آنفاً‏.‏

وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال‏.‏ والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏6‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الحفظ‏:‏ الصيانة والإمساك‏.‏ وحفظ الفرج معلوم، أي عن الوطء، والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ على أزواجهم‏}‏ الخ استثناء من عموم متعلَّقات الحفظ التي دلّ عليها حرف ‏{‏على‏}‏، أي حافظونها على كل ما يُحفظ عليه إلاّ المتعلَّق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فضمن ‏{‏حافظون‏}‏ معنى عدم البذل، يقال‏:‏ احفظ علي عنان فرسي كما يقال‏:‏ أمسكْ عليّ كما في آية ‏{‏أمسِكْ عَلَيْكَ زَوجك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏‏.‏ والمراد حِل الصنفين من بين بقية أصناف النساء‏.‏ وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بَيْنَهُ‏.‏ وتفاصيل الأحوال من حال حِل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين، وكذلك في الإماء‏.‏

والتعبير عن الإماء باسم ‏{‏ما‏}‏ الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لا يحتَاج معه إلى تأويل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فإنهم غير ملومين‏}‏ تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضاً لا يوجب اللوم الشرعي، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم غيرُ ملومين‏}‏ تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرئ بالفاء تحقيقاً للاشتراط‏.‏

وزيد ذلك التحذير تقريراً بأن فرع عليه ‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏}‏ لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعيَّة يُخشى أن تتغلَّب على حافظها، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم‏}‏ أي وراء الأزواج والمملوكات، أي غير ذينك الصّنفين‏.‏

وذُكرَ حفظ الفرج هنا عطفاً على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو تركَ اللغو بالأحرى كما تقدم آنفاً؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أُودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أضمن له الجنَّة»‏.‏

واللوم‏:‏ الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف‏.‏

و ‏{‏وراء‏}‏ منصوب على المفعول به‏.‏ وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيهاً للمتجاوز الشيءَ بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بَيْنَ يَديْه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال‏:‏ هو وراء الحد، ولو كان مستقبله‏.‏ ثم توسع فيه فصار بمعنى ‏(‏غير‏)‏ أو ‏(‏مَا عدا‏)‏ كما هنا، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئاً غير الأزواج وما ملكت أيمانهم‏.‏

وأتي لهم باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك هم العادون‏}‏ لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهوراً مقرراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولئك هم المتقون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏177‏)‏، والعادي هو المعتدي، أي الظالم لأنه عدا على الأمر‏.‏

وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية‏.‏

والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مرّ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلىَ فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد‏.‏

فالأمانة تكون غالباً من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمِننِ والأمين، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها، ولكون دفعها في الغالب عَرِيّاً عن الإشهاد تبعث محبتها الأمينَ على التمسك بها وعدم ردها، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان‏.‏

وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليَمَان قال «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» وحدثنا عن رفعها قال‏:‏ «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فَيَظَلّ أثَرُها مثل أثر الوكْت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجَمْرٍ دَحرجتَه على رِجلك فَنَفِطَ فتراه مُنْتَبِراً وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال‏:‏ إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل‏:‏ ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» اه‏.‏

الوكت‏:‏ سواد يكون في قِشر التمر‏.‏ والمَجْل‏:‏ انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قِشر العِنبة ينشأ من مس النار الجلدَ ومن كثْرة العمل باليد وقوله‏:‏ «مثقال حبة خردل من إيمان» هو مصدر آمنَه، أي ومَا في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيَّاه فلا يأتمنه إلاّ مغرور‏.‏

وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تُؤَدوا الأماناتتِ إلى أهلها‏}‏ في سورة النساء ‏(‏58‏)‏‏.‏ وجمع ‏{‏الأمانات باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصاً على العموم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ لأماناتهم‏}‏ بصيغة الجمع، وقرأه ابن كثير ‏{‏لأمانتهم‏}‏ بالإفراد باعتبار المصدر مثل ‏{‏الذين هم في صَلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏‏.‏

والعهد‏:‏ التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامِل كل واحد من الجانبين الآخرَ به‏.‏ وسمي عهداً لأنهما يتحَالفان بعهد الله، أي بأن يكون الله رقيباً عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏27‏)‏‏.‏

والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة، فإن المرأيْننِ قد يلتزم كل منهما للآخر عملاً عظيماً فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الإلتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملاً لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الخَتْر بالعهد شحّاً أو خوراً في العزيمة، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى‏:‏

‏{‏وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والرعي‏:‏ مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه، فمنه رعي الماشية، ومنه رَعي الناس، ومنه أطلقت المراعاة على مَا يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة‏.‏ والقائم بالرعي رَاع‏.‏

فرعي الأمانة‏:‏ حفظها، ولما كان الحفظ مقصوداً لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها‏.‏ ورعي العهد مجاز، أي ملاحظته عند كل مناسبة‏.‏

والقول في تقديم ‏{‏لأماناتهم وعهدهم‏}‏ على ‏{‏راعون‏}‏ كالقول في نظايره السابقة، وكذلك إعادة اسم الموصول‏.‏

والجمع بين رعْي الأمانات ورعْي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد‏.‏

وذِكْرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال، ولذلك سُميت‏:‏ حقّ الله، وحق المال، وحق المسكين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيَّة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 238‏]‏ وتقدّم معنى الحفظ قريباً‏.‏

وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصاً على العموم‏.‏

وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏الذين هم في صلاتهم خاشعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 2‏]‏ لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعاً للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمالُ الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات‏.‏

وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويهاً بها، ورداً للعجز على الصدر تحسيناً للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولاً لسماعها ووعيها فتتأسى بها‏.‏

والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏على صلواتهم‏}‏ بصيغة الجمع، وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏على صلاتهم‏}‏ بالإفراد‏.‏

وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تُراض له النفس من أعمال القلب والجوارح‏.‏

فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته‏.‏

وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غيرَ مستحضر خشوعاً لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبتُه ربَّه فامتثل واجتنب‏.‏ فهذان من أعمال القلب‏.‏

وذكرت الإعراض عن اللغو، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عَننِ اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك‏.‏ وفي الإعراض عن اللغو خُلُق للسمع أيضاً كما علمتَ‏.‏

وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح ‏{‏ومن يُوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وذكرت حفظ الفرج، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخُلقاً‏.‏

وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا‏.‏

وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء‏.‏

وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقاً راسخاً‏.‏

وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة‏.‏

فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعللِ والترك في المهمات، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها‏.‏

روى النسائي‏:‏ أن عائشة قيل لها‏:‏ كيف كان خُلق رسول الله‏؟‏ قالت‏:‏ كان خُلقه القُرآن‏.‏ وقرأت‏:‏ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ حتى انتهت إلى قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم على صلواتهم يحافظون‏}‏‏.‏ وقد كان خُلق أهل الجاهليَّة على العكس من هذا، فيما عدا حفظ العهد غالباً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مُكاءً وتصديةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين ‏{‏وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6، 7‏]‏، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد اسمُ الإشارة أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلتْ من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏هدًى للمتقين‏}‏ إلى آخره في سورة البقرة ‏(‏2‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك‏.‏

وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك، وحذف معمول ‏{‏الوارثون‏}‏ ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يرثون الفردوس‏}‏ قصداً لتفخيم هذه الوراثة، والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوماً للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف ‏{‏الوارثون‏}‏ تعريف العهد كأنه قيل‏:‏ هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به‏.‏

واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لأن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 72‏]‏‏.‏

والفردوس‏:‏ اسم من أسماء الجنَّة في مصطلح القرآن، أو من أسماء أشرف جهات الجنات، وأصل الفردوس‏:‏ البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر‏.‏ وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حارثة بن سُراقة لمّا أصابه سهم غرب يوم بدر فقتله، وقالت أمّه‏:‏ إن كان في الجنَّة أصبِرْ وأحتسِبْ فقال لها‏:‏ ‏"‏ ويْحَككِ أهَبِلْتِ أوَ جَنَّةٌ واحدَةٌ هي، إنَّها لجِنان كثيرة وإنه لفي الفردوس ‏"‏‏.‏

وقد ورد في فضل هذه الآيات حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أُنْزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ حتى ختم عشر آيات ‏"‏ قال ابن العربي في «العارضة»‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الذين يرثون الفردوس‏}‏ هي العاشرة، رواه الترمذي وصححه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الواو عاطفة غرضاً على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة ‏{‏قد أفلح المؤمنون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏ التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من دلائل القدرة ومن عظيم النعمة‏.‏ فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية، ويتضمن ذلك امتناناً على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليَظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جَروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقاً غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرككِ‏.‏

وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعًى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم‏.‏

والخَلق‏:‏ الإنشاء والصنع، وقد تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قال كذلك الله يخلق ما يشاء‏}‏ في آل عمران ‏(‏47‏)‏‏.‏ والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوعَ الإنساني، وفسر به ابن عباس ومجاهد، فالتعريف للجنس‏.‏ وضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى الإنسان‏.‏

والسّلالة‏:‏ الشيء المسلول، أي المنتَزع من شيء آخر، يقال‏:‏ سَللت السيف، إذا أخرجته من غمده، فالسلالة خلاصة من شيء، ووزن فُعَالة يؤذن بالقلة مثل القُلامة والصُبابة‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ ابتدائية، أي خلقناه منفصلاً وآتيا من سلالة، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما‏.‏

وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل ‏(‏الأنثيين‏)‏ تفرز منه الأنثيان مادة دُهنيَّة شحميَّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض‏.‏ ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بَذر الأجنة‏.‏ ومن اجتماع تلك المادة الدُهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سُلالةٍ من طيننٍ‏.‏

وقوله ‏{‏ثم جعلناه نطفة في قرار مَكين‏}‏ طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السُلالتين في الرحم‏.‏ سميت سُلالة الذكر نطفة لأنها تنطُف، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين‏.‏

ف ‏{‏نطفةً‏}‏ مَنصُوبٌ على الحال وقوله‏:‏ ‏{‏في قرار مكين‏}‏ هو المفعول الثاني ل ‏{‏جعلناه‏}‏‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة‏.‏ فضمير ‏{‏جعلناه‏}‏ عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة، فالمعنى‏:‏ جعلنا السلالة في قرار مكين، أي وضعناها فيه حفظاً لها، ولذلك غُير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي ب ‏(‏في‏)‏ بمعنى الوضع‏.‏

والقرار في الأصل‏:‏ مصدر قَرّ إذا ثبت في مكانه، وقد سمي به هنا المكان نفسُه‏.‏ والمكين‏:‏ الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيءُ الحالّ في المكان الثابت فيه‏.‏ وقد وقع هنا وصفاً لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة، وحقيقتُه مكين حالُّه، وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة‏}‏ في سورة الكهف ‏(‏37‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة‏}‏ في سورة الحج ‏(‏5‏)‏‏.‏

ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله‏:‏ ولقد خلقنا الإنسان‏}‏ آدم‏.‏ وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينَةَ الخاصةَ التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة، فتلك الطينة مسْلولة سلاّ خاصّاً من الطين ليتكوّن منها حيٌّ، وعليه فضمير ‏{‏جعلناه نطفة‏}‏ على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلاً لآدم فيكون في الضمير استخدام، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبدَأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

وحرف ‏(‏ثم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم خلقنا النطفة علقة‏}‏ للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم‏.‏

ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم، والعلقة‏:‏ قطعة من دم عاقد‏.‏

والمضغة‏:‏ القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ‏.‏ وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين‏.‏

وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة‏.‏

وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم، وقد دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فكسونا العظام لحماً‏}‏ بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف ‏{‏فخلقنا المضغة‏}‏ بالفاء‏.‏

فمعنى ‏{‏فَكَسَوْنا‏}‏ أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة، وفي الحديث الصحيح‏:‏ «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ» الحديث، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏ لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء‏.‏

وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب ‏(‏ثم‏)‏ الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب ‏(‏ثم‏)‏‏.‏

وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً، وفي «شرح الموطأ»‏:‏ «تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر‏:‏ ما هذه المناجاة‏؟‏ فقال أحدهما‏:‏ إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال علي‏:‏ لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ الآية، فقال عُمرُ لعليّ‏:‏ صدقت أطال الله بقاءك»‏.‏ فقيل‏:‏ إن عمر أول من دعا بكلمة «أطال الله بقاءك»‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام‏}‏ بصيغة جمع ‏{‏العظام‏}‏ فيهما‏.‏ وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ‏{‏عظماً‏.‏‏.‏ والعَظْمَ‏}‏ بصيغة الإفراد‏.‏

وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ أي أحسن المنشئين إنشاءً، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه‏.‏

ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة‏.‏

وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال‏:‏ كسرته فتكسر، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في «شرح الشافية»، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو‏:‏ تثنَّى‏.‏ وتكبَّرَ، وتشامخ، وتقاعس‏.‏ فمعنى ‏{‏تبارك الله‏}‏ أنه موصوف بالعظمة في الخير، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم‏.‏

وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن ‏{‏تبارك‏}‏ لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره‏.‏ وكذلك حذف متعلق ‏{‏الخالقين‏}‏ يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك‏.‏ و‏{‏ثم‏}‏ للترتيب الرتبي لأن أهميَّة التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهميَّة ذكر الخَلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‏}‏ وهو المقصود‏.‏ فهو كقوله‏:‏ ‏{‏الذي خلق الموت والحياة ليبلُوكم أيكم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ولكون ‏{‏ثم‏}‏ لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك‏.‏ والإشارة إلى الخلق المبين آنفاً، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المُحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيرهُ إلى الفساد والاضمحلال‏.‏ وأكد هذا الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبر فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون‏.‏

وتوكيد خبر ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‏}‏ لأنهم ينكرون البعث‏.‏ ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلاً على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خَلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏، فلم يحتج إلى تقوية التأكيد بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قوياً‏.‏

ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب، فالجملة عطف على جملة ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ وإنما ذكر هذا عقب قوله‏:‏ ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 16‏]‏ للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38 40‏]‏‏.‏

والطرائق‏:‏ جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 1‏]‏ من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له‏:‏ طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى‏:‏ خلقنا سيَّارات وطرائقها‏.‏

وذِكر ‏{‏فوقكم‏}‏ للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها‏.‏

ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان، فالواو في جملة ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ للحال، والجملة في موضع الحال، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏‏.‏

والخلق مفعول سمي بالمصدر، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لِمَا خلقت له لطفاً بالناس أيضاً إذ كان نظام خلقها صالحاً لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل لكمُ النجوم لِتَهْتَدُوا بها في ظُلُمَاتتِ البر والبحر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏‏.‏ وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد، فصار المعنى‏:‏ خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعْيَ مصالحكم أيضاً‏.‏

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا عن الخلق غافلين‏}‏ دون أن يقال‏:‏ وما كنا عنكم غافلين، لما يفيده المشتق من معنى التعليل، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيَّة، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة ‏{‏ولقد خلقنا فوقكم سبع طرايق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 17‏]‏ أن ماء المطر ينزل من صوب السماء، أي من جهة السماء‏.‏

وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة، وفي ذلك أيضاً منة على الخلق فالكلام اعتبارٌ وامتنان من قوله‏:‏ ‏{‏فأنشأنا لكم به جنات‏}‏ إلى آخره‏.‏ ومعنى هذه الآية تقدّم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل‏.‏

وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماءً وثَلجاً وبَرَداً على السهول والجبال‏.‏

والقدَر هنا‏:‏ التقدير والتعيين للمقدار في الكَمّ وفي النَّوبة، فيصح أن يحمل على صريحه، أي بمقدار معيَّن مُناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب، وكذلكَ ذَوَبان الثلوج النازلة‏.‏ ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان‏.‏ وليس المراد بالقَدَر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وتؤمن بالقَدر خيرِه وشره ‏"‏‏.‏

والإسكان‏:‏ جعل الشيء في مسكن، والمسكن‏:‏ محل القرار، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون‏.‏

وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة‏.‏ وهذا الإقرار على نوعين‏:‏ إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدةُ الحرارة أو شدةُ البرد، وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض‏.‏

ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تُفَجَّر بالحفر آباراً‏.‏

وجملة ‏{‏وإنا على ذهاب به لقادرون‏}‏ معتَرضة بين الجملة وما تفرع عليها‏.‏ وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام

وتنكير ‏{‏ذهاب‏}‏ للتفخيممِ والتعظيم‏.‏ ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه، ومن تجفيفه بشدة الحرارة، ومن إمساك إنزاله زمناً طويلاً‏.‏

وفي معناه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمَن يأتيكم بماء معين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏، وفي «الكشاف»‏:‏ «وهو ‏(‏أي ما في هاته الآية‏)‏ أبلغ في الإيعاد من قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غَوراً فمن يأتيكم بماء معين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ اه‏.‏ فبيَّن صاحب «التقريب» للأبلغيَّة ثمانية عشر وجهاً‏:‏

الأول‏:‏ أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع‏.‏

الثاني‏:‏ التوكيد ب ‏(‏إنّ‏)‏‏.‏

الثَّالث‏:‏ اللام في الخبر‏.‏

الرابع‏:‏ أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم‏.‏

الخامس‏:‏ أن الغائر قد يكون باقياً بخلاف الذاهب‏.‏

السادس‏:‏ ما في تنكير ‏{‏ذهاب‏}‏ من المبالغة‏.‏

السابع‏:‏ إسناده ههنا إلى مُذهِب بخلافه ثَمَّت حيث قيل ‏{‏غَوراً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏‏.‏

الثامن‏:‏ ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة‏.‏

التاسع‏:‏ ما في ‏{‏قادرون‏}‏ من الدلالة على القدرة عليه والفعلُ الواقع من القادر أبلغ‏.‏

العاشر‏:‏ ما في جمعه‏.‏

الحادي عشر‏:‏ ما في لفظ ‏{‏به‏}‏ من الدلالة على أن ما يُمسكه فلا مُرسل له‏.‏

الثاني عشر‏:‏ إخلاؤه من التعقيب بإطماععٍ وهنالك ذكر الإتيان المطمع‏.‏

الثالث عشر‏:‏ تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلّق له أو متعلقُهُ على المذهبين البصري والكوفي‏.‏

الرابع عشر‏:‏ ما بين الجملتين الاسميَّة والفعليَّة من التفاوت ثباتاً وغيره‏.‏

الخامس عشر‏:‏ ما في لفظ ‏{‏أصبح‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ من الدلالة على الانتقال والصيرورة‏.‏

السادس عشر‏:‏ أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام‏.‏

السابع عشر‏:‏ أن هنالك نفي ماء خاص أعني المَعين بخلافه ههنا‏.‏

الثامن عشر‏:‏ اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكداً‏.‏

وزاد الألوسي في «تفسيره» فقال‏:‏

التاسع عشر‏:‏ إخباره تعالى نفسُه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك‏.‏

العشرون‏:‏ عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك‏.‏

الحادي والعشرون‏:‏ التشبيه المستفادُ من جعل الجملة حالاً فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمتَ‏.‏

الثاني والعشرون‏:‏ إسناد القدرة إليه تعالى مرتين‏.‏

ونقل الألوسي عن عصريِّه المولى محمد الزهاوي وجوهاً وهي‏:‏

الثالث والعشرون‏:‏ تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ‏(‏ذهب به‏)‏ يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك‏.‏

الرابع والعشرون‏:‏ أنه ليس الوقت للذهاب معيّناً هنا بخلافه في ‏{‏إن أصبح‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي ‏(‏أصبح‏)‏ ناقصاً‏.‏

الخامس والعشرون‏:‏ أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل ‏(‏أي ما دل عليه لفظ غوراً‏)‏‏.‏

السادس والعشرون‏:‏ أن الإيعاد هنا بما لم يبتَلوا به قط بخلافه بما هنالك‏.‏

السابع والعشرون‏:‏ أن الموعدَ به هنا إن وقع فهم هالكون البتة‏.‏

الثامن والعشرون‏:‏ أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفاً في تأميل امتناع الموعَد به وهناك حيث أسند الإصباح غوراً إلى الماء، ومعلوم أن الماء لا يصبح غوراً بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم، أيضاً احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنِعة المقدّم فيأمنوا وقوعه‏.‏

التاسع والعشرون‏:‏ أن الموعَد به هنا يحتمل في بادئ النظر وقوعه حالاً بخلافه هناك فإن المستقبل متعيِّن لوقوعه لمكان ‏(‏إنْ‏)‏‏.‏ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون‏.‏

الثلاثون‏:‏ أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بُعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه‏:‏ إن أصبح ماؤكم غوراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى‏.‏

وأنا أقول‏:‏ عُنِي هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرّض أحدهم للكشف عن وجه توفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها، وليس ذلك لِخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجزِ الناظرين عن استخراج أمثالها، ولكن ما يبيّن من الخصائص البلاغيَّة في القرآن ليس يُريد من يبينه أن ما لاح له ووُفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكنه مبلغ ما صادف لَوحُه للناظر المتدبر، والعلماءُ متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغيَّة في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها‏.‏ وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجاً لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات أخرى كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءَك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏ الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من «المفتاح»، وأنه قال في منتهى كلامه «ولا تظنَّنَّ الآية مقصورة على ما ذكرتُ فلعل ما تركتُ أكثرُ مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلاّ الإرشادَ لكيفيَّة اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان»‏.‏

وقد نقول‏:‏ إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة، وأما آية سُورة المُلك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيَات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نَصل إليها‏.‏

على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتُفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسَلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها‏.‏

وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضاً من صنع الله بمَا أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بُعد فكل هذا الإنشاء من الله تعالى‏.‏

والجنَّة‏:‏ المكان ذو الشجر، وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكَرْم‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كمثَل جنة بربوة‏}‏ الآية في سورة البقرة ‏(‏265‏)‏‏.‏

وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمراً وهو النخيل والأعناب والزيتون، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة الأنعام ‏(‏99‏)‏ وفي سورة النحل ‏(‏11‏)‏‏.‏

والفواكه‏:‏ جمع فاكهة، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت، فإن قُصد به القوت قيل له طَعام‏.‏

فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمْر والعِنب لأنه يؤكل رطباً ويابساً، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منَّة بالحاجيِّ والتحسيني‏.‏

ووصف الفواكه ب ‏{‏كثيرة‏}‏ باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر، وكالزيت والعنب الرّطْب، وأيضاً باعتبار كثرة إثمار هذين الشجَريْن‏.‏

‏{‏وشَجَرَةً‏}‏ عطف على ‏{‏جنَّات‏}‏ أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، وجملة ‏{‏تخرج‏}‏ صفة ل ‏{‏شجرة‏}‏ وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاماً وإصلاحاً ومداواة، ومن أعوادها وَقود وغيره، وفي الحديث «كلوا الزيت وادَّهِنوا به فإنَّه من شجرة مباركة»‏.‏

وطور سيناء‏:‏ جبل في صحراء سيناء الواقعَةِ بينَ عقبة أيلة وبين مصر، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف ‏(‏143‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏ولكن انظر إلى الجبل‏}‏ وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة، وطورُ سيناء أو طور سينين‏.‏ ومعنى الطور الجبل‏.‏ وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك‏.‏ وقيل اسم حجارة‏.‏ وقيل هو اسم لذلك المكان، قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح‏.‏ وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحَسَن في اللغة الحبشيَّة وهو كلمة سَناه، ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطاً‏.‏

وسُكنت ياء سيناء‏}‏ سكوناً ميِّتا وبه قرأ الجمهور‏.‏ ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكوناً حياً، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهو في القراءتين ممدود، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلميَّة والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فِعْلاء إذا كان عينه أصلاً لا تكون ألفه للتأنيث بل للإلحاق وألف الإلحاق لا تمنع الصرف، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فَعْلاء من أوزان ألف التأنيث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تخرج من طور سيناء‏}‏ يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطُور سيناء‏.‏ وقد غمض وجه ذاك‏.‏ والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 53‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 21‏]‏، وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازماً لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوماً بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوباً فيه‏.‏ وهي استعارة شائعة في القرآن‏.‏

فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لا بد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال، وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون‏.‏

ثم إن البشر إذا نقلوا حيواناً أو نباتاً من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غيرِ فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة بَرد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يَتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلاً في بعض المناطق غير الملايمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة، فلعل جَوّ طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرّاً وبَرداً ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏زيتونة لاَ شرقية ولا غربيَّة‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال‏:‏ ‏{‏خلقَ الإنسانَ من صلصال‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 14‏]‏ ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض‏.‏

وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعدَه‏.‏ ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين‏:‏ أن نوحاً أرسل حمامة تبحث عن مكان غِيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض‏.‏ ومعلوم أن ابتداء غَيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء‏.‏

وأيّاً مَّا كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة من قبل الطوفان‏.‏ ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلاّ في عهد موسى عليه السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى، وسَكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهناً لبني إسرائيل‏.‏

ويجوز أن يكون معنى ‏{‏تخرج‏}‏ تظهر وتُعرف، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء‏.‏ وهذا كما نسمّي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمَشْرَفِيَّةِ لأنَّها عرفت من مَشارف الشام، وبعض الرماح الخَطيةَ لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفأ يقال له‏:‏ الخَط، وبعض السيوف بالمهنَّد لأنَّه يجلب من الهند، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين‏.‏

وأيّاً مَّا كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلاّ التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلاّ فإن الامتنان بها لم يكن موجهاً يومئذٍ لسكان طور سيناء، وما كان هذا التنبيه إلاّ للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس‏.‏ ورأيت في «لسان العرب» عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح‏:‏ أن كل زيتونة بفلسطين فهي من غرس أمم يقال لهم اليونانيون اه‏.‏ والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجاراً قديمة بادتْ‏.‏

وفي أساطير اليونان ‏(‏ميثولوجيا‏)‏ أن منيرفا ونَبْتُون ‏(‏الربين في اعتقاد اليونان‏)‏ تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسماً لمدينة بناها ‏(‏ككرابيس‏)‏ فحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلاّ من يصنع أنفع الأشياء‏.‏ فأما ‏(‏نبتون‏)‏ فأوجد فرساً بحرياً عظيم القوة، وأما ‏(‏مينيرفا‏)‏ فصنَعت شجرة الزيتون بثمرتها، فحكم الأربابُ لها بأنها أحق، فلذلك وضعُوا للمدينة اسم ‏(‏أثينا‏)‏ الذي هو اسم منيرفا‏.‏ وزعموا أن ‏(‏هيركول‏)‏ لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل ‏(‏أولمبُوس‏)‏ وهو مسكن آلهتهم في زعمهم‏.‏

فقد كان زيت الزيتون مستعملاً عند اليونان من عهد ‏(‏هوميروس‏)‏ إذ ذكر في الإلياذة أن ‏(‏أخيل‏)‏ سكب زيتاً على شلو ‏(‏فطر قليوس‏)‏ وشلو ‏(‏هكتور‏)‏‏.‏

وكان الزيت نادراً في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام‏.‏

وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلاً لنوره في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يُوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تَمْسَسْهُ نارٌ نورٌ على نور‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏‏.‏

والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تخرج من طور سيناء‏}‏ لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة بالنبات في طور سيناء، وذلك كقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى ‏{‏تخرج من طور سيناء‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏تنبت بالدهن‏}‏ أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة‏.‏

وهذه الآية مثال لباء الملابسة، والملابسة معنى واسع، فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبْغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ، فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهناً وصبغاً للآكلين، فأما كونه دهناً، فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجِّلون به شعورهم ويجعلون فيه عطوراً فيرجلون به الشعور، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدَّهن بالزيت في رأسه‏.‏

والدّهن بضم الدال‏:‏ اسم لما يدهن به، أي يطلَى به شيء، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يُطلَى به الجسد للتداوي والشَّعَر للترجيل‏.‏

والصِّبغ، بكسر الصَّاد‏:‏ ما يصبغ به أي يُغير به اللَّون‏.‏ ثم تُوسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم مَّا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صبْغةَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 138‏]‏‏.‏ وسمي الزيت صبغاً لأنه يصبغ به الخبز‏.‏ وعَطفُ ‏{‏صِبغ‏}‏ على ‏{‏الدهن‏}‏ باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادّة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن به والصبغ أخص؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام، وكانوا يأدِمون به الطعام وذلك صبغ للطعام، أخرج الترمذي في «سننه» عن عمر بن الخطاب وعن أبي أُسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ كُلُوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة ‏"‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏تَنبُت‏}‏ بفتح التاء وضَم الموحدة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورُويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول‏:‏ أنبت بمعنى نبت أو على حذف المفعول، أي تُنبت هي ثَمرها، أي تخرجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏21‏)‏ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

هذا العطف مثل عطف جملة ‏{‏وأنزلنا من السماء‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 18‏]‏ ففيه كذلك استدلال ومنة‏.‏

والعبْرة‏:‏ الدليل لأنه يُعبر من مَعرفته إلى معرفة أخرى‏.‏ والمعنى‏:‏ إن في الأنعام دليلاً على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم‏.‏ والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب‏.‏

وجملة ‏{‏نسقيكم مما في بطونها‏}‏ بيان لجملة ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة‏}‏ فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان‏.‏

والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه ‏{‏نسقيكم‏}‏‏.‏ وأما ‏{‏نسقيكم‏}‏ بمجردة فهو منة‏.‏ وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلاً في سورة النحل ‏(‏66‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏ولكم فيها منافع كثيرة‏}‏ وما بعدها معطوفة على جملة ‏{‏نسقيكم مما في بطونها‏}‏ فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجُمل بعده‏.‏ وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنَّتاج‏.‏

وأما الأكل منها فهو عبرة أيضاً إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم، وألهم إلى طريقة شَيِّهَا وصلقها وطبخها، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة‏.‏

وكذلك القول في معنى ‏{‏وعليها‏.‏‏.‏ تحملون‏}‏ فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة، والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون، وقرأه الباقون عدا أبا جعْفر بضم النون يقال‏:‏ سقاه وأسقاه بمعنى، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام‏.‏

وعَطف ‏{‏وعلى الفلك‏}‏ إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدماً موجهيْن إلى المشركين الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثْلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب أن يضرب لهم بقوم نوح مثلٌ تحذيراً مما أصاب قوم نوح من العذاب، وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص، فيعتبر ذكر قصص الرسل إما استطراداً في خلال الاستدلال على الوحدانيَّة، وإمَّا انتقالاً كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عُقِّب به ذلك‏.‏

وعطف مقالة نوح على جملة إرساله بفاء التعقيب لإفادة أدائه رسالة ربه بالفور من أمْره وهو شأن الامتثال‏.‏

وأمْرُهُ قومَه بأن يعبدوا الله يقتضي أنهم كانوا معرضين عن عبادة الله بأن أقبلوا على عبادة أصنامهم ‏(‏وُدّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر‏)‏ حتى أهملوا عبادة الله ونسوها‏.‏ وكذلك حكيت دعوة نوح قومه في أكثر الآيات بصيغة أمر بأصل عبادة الله دون الأمر بقصر عبادتهم على الله مع الدلالة على أنهم ما كانوا ينكرون وجود الله ولذلك عقب كلامه بقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏

ويدل على هذا قولهم‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ فهم مثبتون لوجود الله، فجملة ‏{‏ما لكم من إله غيره‏}‏ في موقع التعليل للأمر بعبادته وهو تعليل أخص من المعلَّل، وهو أوقع لما فيه من الإيجاز لاقتضائه معنى‏:‏ اعبدوا الله وحده‏.‏ فالمعنى‏:‏ اعبدوا الله الذي تركتم عبادته وهو إلهكم دون غيره فلا يستحق غيرُه العبادة فلا تعبدوا أصنامكم معه‏.‏

و ‏{‏غيرهُ‏}‏ نعت ل ‏{‏إله‏}‏‏.‏ قرأه الجمهور بالرفع على اعتبار محل المنعوت ب ‏(‏غير‏)‏ لأن المنعوت مجرور بحرف جر زائد، وقرأه الكسائي بالجر على اعتبار اللفظ المجرور بالحرف الزائد‏.‏

وفرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهامُ إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى‏.‏ وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏ فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح‏.‏

والثاني‏:‏ ليُفاد أنهم أسرعوا بتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر‏.‏ ووصفُ الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نُهوض له ولكنهم روّجُوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من قومه‏}‏ صفة ثانية‏.‏

وقول الملأ من قومه‏:‏ ‏{‏ما هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ خاطب به بعْضُهُم بعضاً إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشَّارة، أي فقال عظماء القوم لعامتهم‏.‏

وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليللٍ من ذاته، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة‏.‏ واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله، وقد تقدم نظير هذا في سورة هود‏.‏

وزادت هذه القصة بحكاية قولهم‏:‏ ‏{‏يُريد أن يتفضل عليكم‏}‏ فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلاّ حباً في أن يَسُود على قومهم فَخَشُوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم‏.‏

فلما كانت مطامح أنفسهم حبّ الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم‏.‏

والتفضل‏:‏ تكلف الفَضل وطلبه، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ما هذا إلاّ بشر مثلكم‏}‏ بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولاً لله، وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب ‏(‏لو‏)‏، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رُسُلاً، وحَذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة، وذلك من الإيجاز، ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب «المفتاح»‏:‏ ألا ترى قول المعري‏:‏

وإن شئت فازعُم أنّ مَن فوقَ ظهرها *** عَبيدُكَ واستشهِدْ إلهك يَشْهَدِ

وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكرَ مفعول المشيئة‏.‏ فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط‏.‏

وجملة ‏{‏ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين‏}‏ مستأنفة قَصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيهاً على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لها قبلها، بخلاف أسلوب عطف جملة‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لأنزل ملائكة‏}‏ إذ كان مضمونُها من تمام غرض ما قبلها‏.‏

فالإشارة ب ‏{‏هذا‏}‏ إلى الكلام الذي قاله نوح، أي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه، وهو استعمال شائع‏.‏ ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمناً تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية‏.‏

والآباء الأولون هم الأجداد‏.‏

ولما كان السماع المنفي ليس سماعاً بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا، عُدّي فعل ‏{‏سمعنا‏}‏ بالباء لتضمينه معنى الاتصال‏.‏ جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء، وهو مجادلة سفسطائيَّة إذ قد يكون انتفاءُ العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحاً فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة‏.‏

وجملة ‏{‏إنْ هو إلاّ رجلٌ به جِنَّة‏}‏ استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يَتَساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فماذا دعاه إلى القول بها‏؟‏ فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثلُه من التفضل على الناس كلهم بنِسْبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون‏.‏

والتنوين في ‏{‏جِنَّة‏}‏ للنوعية، أي هو متلبس بشيء من الجنون، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنوناً خفيفاً لا يبدو آثاره واضحةً‏.‏

وقصروه على صفة المجنون وهو قصر إضافيّ، أي ليس برسول من الله‏.‏

وفرعوا على ذلك الحكم أمراً لقومهم بانتظار ما ينكشف عنه أمره بعد زمانٍ‏:‏ إمَّا شِفاء من الجِنَّة فيرجع إلى الرشد، أو ازدياد الجنون به فيتضح أمره فتعلموا أن لا اعتداد بكلامه‏.‏

والحين‏:‏ اسم للزمان غير المحدود‏.‏

والتربص‏:‏ التوقف عن عمل يُراد عمله والتريثُ فيه انتظاراً لما قد يغني عن العمل أو انتظاراً لفرصة تُمكِّن من إيقاعه على أتقن كيفية لنجَاحه، وهو فعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بالباء التي هي للتعدية ومعناها السببية، أي كان تربص المتربص بسبب مدخول الباء‏.‏ والمراد‏:‏ بسبب ما يطرأ عليه من أحوال، فهو على نية مضاف حذف لكثرة الاستعمال، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويتربَّصُ بِكُمُ الدوائرَ‏}‏ في سورة براءة ‏(‏98‏)‏ فانظره مع ما هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏26‏)‏ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون، مما يثير سؤال مَن يسأل عمَّاذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال‏:‏ ‏{‏رب انصرني‏}‏ الخ‏.‏

ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عَدّ فعلَهم معه اعتداءً عليه بوصفِه رسولاً من عند ربه‏.‏

والنصر‏:‏ تغليب المعتدَى عليه على المعتدي، فقد سأل نوح نصراً مجملاً كما حكي هنا، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلاّ مَن آمن منهم كما جاء في سورة هود، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتِّباع ملته، فسأل نوح حينذاك نصراً خاصاً وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح ‏(‏26، 27‏)‏ ‏{‏وقال نوح ربّ لا تَذَرْ على الأرض من الكافرين دَيَّاراً إنك إن تَذَرهمُ يُضِلّوا عبادك‏.‏ فالتعقيب الذي في قوله تعالى هنا‏:‏ فأوحينا إليه‏}‏ تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت، وهو إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن أضربْ بعصاكَ البَحْرَ فانفلق‏}‏ الخ في سورة الشّعراء ‏(‏63‏)‏‏.‏

والباء في بما كَذّبون‏}‏ سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء، أي نصراً كائناً بسبب تكذيبهم، فجعل حظ نفسهِ فيما اعتدوا عليه مُلغىً واهتم بحظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله‏.‏

وجملة ‏{‏أن اصنع‏}‏ جملة مفسره لِجملة ‏{‏أوحينا‏}‏ لأن فعل ‏{‏أوحينا‏}‏ فيه معنى القول دون حروفه، وتقدم نظير جملة ‏{‏واصنع الفلك بأعيننا ووحينا‏}‏ في سورة هود ‏(‏37‏)‏‏.‏

وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوُقِّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان‏.‏

وتقدم الكلام على معنى ‏{‏فار التنور‏}‏ ومعنى ‏{‏زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول‏}‏ في سورة هود ‏(‏40‏)‏‏.‏

والزوج‏:‏ اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شَفعا في حالة مَّا‏.‏ وتقدم في سورة هود‏.‏

وإنما عبر هنالِك بقوله‏:‏ ‏{‏قلنا احمل فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ وهنَا بقوله‏:‏ ‏{‏فاسلُك فيها‏}‏ لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة‏.‏

ومعنى ‏{‏اسلك‏}‏ أدخِل، وفعل ‏(‏سلك‏)‏ يكون قاصراً بمعنى دخل ومتعدياً بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما سَلَكَكُم في سَقَر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقول الأعشى‏:‏

كما سلَك السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ ***

وتقدم الكلام على مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون‏}‏ في سورة هود ‏(‏37‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من كل زوجين‏}‏ بإضافة ‏{‏كل‏}‏ إلى ‏{‏زوجين‏}‏‏.‏ وقرأه حفص بالتنوين ‏{‏كلَ‏}‏ على أن يكون ‏{‏زوجين‏}‏ مفعولَ ‏{‏فاسلك‏}‏، وتنوين ‏{‏كل‏}‏ تنوين عوض يُشعرُ بمحذوف أضيف إليه ‏{‏كل‏}‏‏.‏ وتقديره‏:‏ من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة‏.‏